خمسه ريال!

قياسي

عندما كنت في الصف الأول الابتدائي حصل لي موقف لن أنساه أبدا. أثناء لعبي في الفسحة وجدت “خمسة ريال” واقعة على الأرض في ساحة المدرسة. يبدو بأنها سقطت من أحد الطلاب دون أن يدري. عندما رأيت الخمسة ريالات أخذتها ووضعتها في جيبي وعدت إلى البيت. بحكم طفولتي، لم يكن لدي أي خيار آخر سوى أن آخذ المبلغ وأعتبره هبة من السماء تستحق -بكل براءة – أن أشكر الله عليها. أتذكر بأنني وبمجرد دخولي إلى البيت ذهبت إلى أمي وحكيت لها الموقف بكل فرح وفخر. كنت سعيدا جدا بحصولي على مثل هذا المبلغ الذي كان يعادل مصروف ثلاثة أيام تقريبا حينها وكان كفيلا بأن يشتري لي زعتر وبيتزا وبطاطس زينة ونحول وببسي وعصير أدلع بها نفسي بقية أيام الأسبوع. مازلت أتذكر وجه أمي عندما حدثتها بالموقف. لم يكن وجها راضيا أو سعيدا كما توقعت! قالت لي:”باسم.. هذي فلوس ولد طاحت منه.. هذي حقته.. خذها معك بكرة وعطها الاستاذ عشان يدور صاحب الفلوس ويرجعها له.” لم أكن سعيدا برد أمي وقتها وكنت أتمنى لو أنني أبقيت هذه الثروة معي! كان الموقف -بحق- موقفا صعبا.

اليوم وبعد سنوات.. دخلت إلى السوبر ماركت القريب من بيتي وبعد أن اشتريت بعض الأغراض أعطيت المحاسب بطاقتي الفيزا ليخصم مبلغ مااشتريته منها ولكنني عندما عدت إلى البيت وقرأت رسائل الجوال تفاجأت بأن المبلغ الذي خصم من الفيزا كان ستة ريالات بدلا من ستين ريالا! هذه المرة، كان لدي خيار آخر.. خيار ربتني عليه أمي عندما كنت طفلا.. خيار لم يكن أبدا صعبا.. خيار “الأمانة”!

عدت إلى السوبر ماركت وأريت المحاسب الرسالة وأعطيته بطاقتي فقام بخصم ماتبقى من الحساب وشكرني من أعماق قلبه.

في كلا الموقفين ربما كان موقفي “القانوني” سليما فيما لو قررت الاحتفاظ بالمبلغ. فالخطأ لم يكن خطأي والنظام غالبا لن يتهمني بالسرقة، ولكن هل سيكون موقفي فيما لو احتفظت بالمبلغ سليما “أخلاقيا”؟! أبدا!

وأنا أكتب لكم هذين الموقفين، مرت بخاطري العديد من المواقف سواء في حياتنا العملية أو الاجتماعية التي قد تكون بنفس الصورة؛ سليمة من الناحية القانونية ولكنها عكس ذلك من الناحية الأخلاقية. مواقف ليست بالسهلة أبدا. مواقف نحتار فيها بين القانون والأخلاق.. مواقف يصعب علينا جدا اتخاذ القرار بشأنها..

ولكن علينا دائما أن نختار الخيار “الأخلاقي” حتى ولو كان صعبا!

لماذا؟

لأن “الأخلاقيات” ياسادة نجاح على المدى البعيد وسمعة حسنة لك وللمؤسسة التي تنتمي إليها. الأخلاقيات ياسادة نهج يجعلك تنام مرتاح الضمير وهادئ البال. الأخلاقيات ياسادة ثقافة بدونها لن نكون “عظماء”!

قال الله تعالى: (وإنك لعلى خلق عظيم)

مقبرة الأعوام

قياسي

هلم بنا إلى المقبرة.. 
إلى مقبرة الأعوام.. 
هناك.. حيث استلقى كل عام مضى ممدًا.. بلا حراك أو نفس.. لا سؤال يهمس ولا جواب يلتمس.. الهدوء وحده يلف المكان.. هكذا حال المقابر..!
اختلفت المقابر.. وتعددت القبور.. ومازالت مقابر أعوامنا حتى هذه الساعة مفتوحة الأبواب.. تستقبل في كل عام عامًا قد حان أجله وانقضت أيامه. والسعيد من عمر مقبرته بعبادة وطاعة.. والشقي من أفسد مقبرته ربما بلذة ساعة.. ولا تستوي مقبرة الشقي والسعيد!!
فمن أي الأنواع يا ترى هي مقابر أعوامنا؟!
الله أعلم!!
مقابر الناس تختلف باختلاف أصحابها.. فمن الناس من مقبرة أعوامه خضراء نضرة.. أخاذة عطرة.. تسلب الألباب بجمالها، وتزكم الأنوف بأريجها.. هي مقبرة ليست كالمقبرة.. يحسبها الزائر جنة قد أحيطت بسور.. أو واحة قد توارت حياء عن أعين الناظرين.. معمورة بأجل الطاعات وأزكى العبادات.. سياجها تقوى الله.. وحبيبات رملها ذكر وتسبيح.. وهواؤها نقي لا حقد و لا حسد.. حارسها يفتح الباب كل عام وقد نضر وجهه وحسن مظهره يقول لصاحبها: والله ما علمنا عن عامك هذا – رحمه الله – إلا خيرًا.. 
ومن الناس من مقبرة أعوامه ظلمات بعضها فوق بعض.. لا نور يضيؤها.. ولا هواء يحرك ساكنها.. كأنما قبورها رؤوس الشياطين.. يزورها الزائر فما يحسبها إلا سجنًا قد أحاطت جدرانه بكل ما قبح وشان.. أو منفى قد قضى فيه صاحب كل رذيلة. جدرانها جد عالية وكأنما قد خشي صاحبها أن تفضحه عند الخلائق بخبيث ريحها وقبيح منظرها.. كل حبة رمل فيها تشهد على معصية أو تفاخر بذنب.. وكل قبر فيها يصرخ بأعلى صوته “أن أخرجوا هذا العام من جوفي فما جلب لي والله إلا البؤس والشقاء” وصدق القبر وما كذب!!. 
ومن الناس من حديث قبور أعوامه أفضل من قديمها.. وما وقع نظر الناظر على قبر إلا وحسبه أجمل القبور وأحلاها.. فإذا ما نظر إلى قبر العام الذي بعده نسي جمال السابق وانشغل بروعة اللاحق فكل قبر قد فاق سابقه جمالاً وحسنا.. وكل عام قد فضل سابقه علمًا وعملاً!!
ومن الناس من مقبرة أعوامه على النقيض تمامًا.. فترى قديم قبوره أصلح بناء وأشد قوة من حديثها.. حتى ليخيل للناظر إليها أن صاحبها قد أتعبه بناء قبوره فكل ومل.. وما عادت مقابر أعوامه كسابقها من حيث الوضاءة والجمال.. وإنما اعترتها جرثومة ضعف وأصابتها لوثة من فتور.. فكانت النتيجة أن كان كل قبر أقل من سابقه رونقًا وبهاءً!!
وهكذا هي المقابر.. مقابر الأعوام.. فمقبرة تسر الناظر.. وأخرى تسوؤه.. وبين المقبرتين مقابر تتفاوت في جمال التصميم وروعة البنيان. 
وما زلنا نتعاهد مقابرنا بدفن الأعوام.. العام بعد العام.. فنذهب إلى المقبرة ونحثو التراب على عام فارقنا ثم نعود أدراجنا.. إلى أن يأتي اليوم الذي نحمل فيه حملاً إلى المقبرة.. إلى نفس المقبرة.. فيحثى علينا التراب ويرجع القوم.. ونبقى هناك.. لنتوسد القبر حيث لا أنيس ولا جليس إلا مقابر قد بنيناها في زمن مضى.. تناثرت هنا وهناك.. 
مقابر أعوامنا!! 

أبو كاشف

قياسي

 

كان أبو كاشف إنسانا تبدو عليه الانطوائية، لاتربطه الكثير من العلاقات مع الناس، يحب المطاعم ويعشق السفر، بسيط إلى أبعد درجة ولاتبدو عليه الكثير من علامات الذكاء أو النباهة. ولكن العجيب أنه وبالرغم من ذلك كان يبدو وكأنه يعرف معظم مايدور في أروقة الشركات من أسرار. كان من حين لآخر يكتب في “قروبات الواتساب” عن معلومات لايعلمها أحد عن بعض الشركات حتى قبل أن يعرف موظفو تلك الشركة عنها. وكان بكل بساطة قادرا على أن يخبرك، مثلا، بأن هناك هيكلة جديدة تخطط لها إحدى الشركات، أو يقول مثلا بأن هناك أخبارا عن استقالة قريبة لأحد المسئولين في شركة أخرى، أو تجده فجأة يتحدث عن نية لاستحواذ شركة على شركة قبل أن يظهر أي خبر رسمي عن ذلك، أو تجده يتكلم عن توقع لنتائج سلبية أو إيجابية لشركة ما، أوصفقات وعقود وميزانيات لم يتم الاعلان عنها بعد.

كانت المعلومات التي  يكشفها أبو كاشف عن بعض الشركات سببا في خسارة بعض من تلك الشركات لعدد من مميزاتها التنافسية الخاصة بها سواء كانت على الصعيد المالي أو على صعيد السمعة . فمثلا في إحدى المرات تحدث أبو كاشف عن إحدى المشاريع التي تعتزم إحدى الشركات القيام بها، فما كان من أحد أصدقائه، والذي كان يعمل مديرا في الشركة المنافسة لتلك الشركة إلا أن أخذ فكرة المشروع وطبقها فورا في شركته مماجعل الشركة الأولى صاحبة المشروع تفقد ميزة الريادة في ذلك المشروع وتفقد جزءا كبيرا من الايرادات المتوقعة. وفي مرة أخرى، كتب أبو كاشف في حسابه على تويتر تغريدة تناقلها مئات المغردين حول ماوصفه بمعلومات مسربة عن أنباء متعلقة بصفقة ضخمة لإحدى الشركات وهو الأمر الذي تسبب في حدوث تذبذب حاد على سهم الشركة ومسائلة الشركة لاحقا من قبل الجهة المختصة وتغريمها نتيجة لفشلها في اتخاذ الاحتياطات اللازمة لمنع تسرب الخبر، كما أن ذلك التسريب كان أحد الأسباب الرئيسة التي تسببت في إلغاء الصفقة فيما بعد. وفي المقابل، تضررت سمعة بعض الشركات من معلومات أبو كاشف، حيث أصبحت بعض الشركات توصف بأنها شركات لاتعرف كيف تحتفظ بمعلوماتها، وأن معلوماتها تتسرب بسهولة أو أنها شركات مخترقة أوفاسدة أو لاتؤدي عملها باحترافية.

كان الجميع يعلم بأن أبو كاشف يملك معلومات وأسرارا تجارية قد تصيب أحيانا وتخطئ أخرى، ولكن لم يكن أحد أبدا يعلم بأن الطريقة التي يحصل بها أبو كاشف على معلوماته ساهم في نجاحها عدد من المنتمين لتلك الشركات من حيث لايعلمون، ساهم فيها موظفون ومديرون ومستشارون غاب عنهم أن المعلومة قوة، وأن “التهاون” في المحافظة عليها قد يؤدي إلى ما لاتحمد عقباه، ساهم فيها أشخاص لم يدركوا بأن “السوالف” عن معلومات داخلية أو أسرار تجارية خاصة بالشركة مع الآخرين سواء كانوا أصدقاء أو أقارب أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو مع زملاء من شركات أخرى قد يضر بمصلحة الشركة ككل وبالتالي فإنه مهما بلغت قسوة الإجراء التأديبي الذي يطال الشخص الذي أفشى المعلومة فإنه لن يعوض أبدا ولو جزءا بسيطا من ما فات الشركة من ربح أو نالها من أذى وقد يضطرها إلى ملاحقته قانونيا، ساهم في نجاحها أشخاص لم يدركوا بأن أبو كاشف قد يكون ذلك الشخص الذي يجلس على الطاولة القريبة منهم وقت الغداء وهم يتحدثون عن أسرار العمل، أو ذلك الشخص الذي يتظاهر بقراءة جريدة وهم يستعرضون المشروع القادم في مقاعد درجة رجال الأعمال على متن الطائرة!