سارعي للمجد والعلياء

قياسي

“سارعي للمجد والعلياء..

مجدي لخالق السماء..

وارفعي الخفاق أخضر..”

كانت تلك الكلمات أول كلمات أناشيد يحفظها في حياته.. ويرددها أمام أصدقاء والده كلما طلب منه أبوه أن ينشد نشيدا أمام أصحابه في “مجلس” البيت..

مازال يتذكر معلمته التي حفظته ذلك النشيد.. كان ذلك في روضة “الملك عبدالعزيز” في القاعدة الجوية في الظهران..

مازال يتذكر ذلك الحفل الختامي للروضة والذي طلبت فيه المعلمة من الطلاب والطالبات الصغار ارتداء اللون الأخضر للمشاركة بذلك النشيد أمام الأمهات من على خشبة المسرح..

كان ذلك النشيد هو نشيده المفضل.. كان يردده في كل وقت.. ومع أنه لم يكن يدرك تماما معنى كلماته إلا أنه وجد فيه ترنيمته المفضلة ولحنه الذي يدندن به بينه وبين نفسه عندما يكون وحيدا أو يلهو بألعابه..

“سارعي للمجد والعلياء..

مجدي لخالق السماء..

وارفعي الخفاق أخضر..

يحمل النور المسطر..

رددي الله أكبر..

ياموطني

موطني.. عشت فخر المسلمين..

عاش المليك للعلم والوطن”

⁃ “بابا.. وش يعني سارعي للمجد والعلياء”

⁃ “سؤال حلو ياوليدي.. معناها روحي بسرعة فوق.. فوق مررة.. واسبقي كل الناس وصيري أحسن وحدة”

⁃ “من هي يابابا؟”

⁃ “بلدنا.. ووطنا.. المملكة العربية السعودية”

⁃ “أها..عشان كذا يقولون الخفاق أخضر.. عشان علمنا لونه أخضر”

⁃ “صح عليك ياوليدي”

ازداد حب الطفل لذلك النشيد أكثر وأكثر بعد معرفة معانيه.. أصبح يردده أكثر وأكثر.. وأصبح يفضل اللون الأخضر أكثر من أي لون آخر.. عندما يريد أن يشتري “سيكلا” يختار اللون الأخضر.. وعندما تقول له أمه وش تبي لون مفرش سريرك يقول مباشرة أخضر.. سيارته الكهربائية الصغيرة خضراء.. وشنطته التي يذهب بها إلى المدرسة لونها أخضر..

مرت الأيام وذات يوم وهو يردد النشيد بينه وبين نفسه.. خطر في باله أن يعرف أكثر عن كلمات هذا النشيد الذي أحبه.. من كتبه؟

⁃ “بابا.. من مؤلف سارعي للمجد والعلياء”

⁃ “إبراهيم خفاجي”

من شدة حرصه على إتقان نشيده المفضل.. النشيد الوطني.. بحث عن كلماته.. فوجد أن بعض الناس يخطؤون عندما يقولون: وارفعي الخفاق الأخضر.. والصحيح أنها “وارفعي الخفاق أخضر” كما أدرك بأن كلمة “قد” ليست موجودة “موطني: عشت فخر المسلمين” لأن الفخر دوما وأبدا ولم يكن في الماضي فقط..

جاءت حرب الخليج فازداد تعلقا وولاء لوطنه..

ولعب المنتخب في كأس العالم لأول مرة في أمريكا فازداد هوسه بحب بلاده..

مرت السنوات و كبر الطفل وأصبح شابا.. صبغ غرفته بالأخضر.. وكانت سيارته خضراء.. وكان يفضل ارتداء الملابس التي يكسوها اللون الأخضر..

تزوج الشاب.. وأنجب أطفالا.. أطفالا علمهم منذ الصغر حب الوطن وعشق اللون الأخضر.. كان يسمعهم يرددون النشيد الوطني وهم يلعبون.. “سارعي للمجد والعلياء.. مجدي لخالق السماء”..

كان يستمع لهم وقلبه يخفق شوقا لتكرار اللحظة التي عاشها مع أبيه يوما.. كان متأكدا من أنها ستأتي ولكنه لم يكن يعلم متى..

اليوم أعاد التاريخ نفسه..

وتكررت لحظة طالما تمناها..

جاءه طفله الصغير وسأله:

⁃ “بابا.. وش يعني سارعي للمجد والعلياء؟”

الصندوق

قياسي

قصة قصيرة:

“الصندوق”

(تنبيه: هذه القصة من وحي الخيال. أرجو من عزيزي القارىء أن لايصدق أنها حقيقة)

الفصل الأول:

كان “عادل” متقوقعا لوحده في صندوق داخل الغرفة وفجأة سمع صوت أقدام تقترب منه.

⁃ “هذا هو هنا.. خلنا نطلعه”

أحس “عادل” للمرة الأولى منذ أسبوع بحركة أيد تحاول فتح الصندوق، وماهي إلا ثوان إلا وهو يرى فوقه رجلين يرتديان زيا رياضيا ويقولان له:

⁃ “يلا يا “عادل” اطلع”..

رفع “عادل” رأسه بصعوبة، ونظر إلى الرجلين نظرة حادة يكسوها الألم ثم قال:

⁃ “أنتم متأخرين تقريبا نص ساعة. تأخركم كان بسبب انكم جايعين وأخذتوا من المطعم تيك أوي واكلتوه في دورة المياه. اكلتوا في الدورة لأن الأكل في المكاتب ممنوع. وريحتكم واضح انها ريحة حمام. تكرمون”

نظر الرجلين لبعضهما وضحكا ثم قال الشخص الأول:

⁃ “يامجنون.. كيف عرفت ان حنا تأخرنا نص ساعة وانت اصلا مامعك ساعة.. يلا اطلع من صندوقك بس!!”

كان “عادل” يعرف الوقت من خلال انعكاس ظل ضوء الشمس المتسلل بخجل من النافذة على ذلك “الكأس الذهبي” الموضوع على رف في زاوية الغرفة المظلمة. كان “عادل” شديد الملاحظة ولايفوته شيء.

وبينما كانت عينا “عادل” تنظر بألم تجاه الكأس.. بدأ الكأس يتحول شيئا فشيئا إلى لون رمادي.. بدا وكأنه يحترق ويذوب.. انقطع تركيز “عادل” على الكأس عندما صرخ الشخص الثاني:

⁃ “عادل..اخلص علينا.. جهز نفسك.. عندنا مباراة بكرة.. لازم نفوز”

تمتم الشخص الأول بفرح:

⁃ “أكيد بنفوز..عادل معنا”

نظر “عادل” إلى الكأس مرة أخرى.. كان الكأس ذهبيا لامعا.

كان “عادل” متعبا للغاية، ليس بسبب المدة التي قضاها داخل الصندوق، وإنما بسبب عدد المرات التي تحامل فيها على نفسه وأنهكها جدا جدا في سبيل تحقيق الفوز.

الفصل الثاني:

انتهت المباراة بفوز الفريق بثلاثة أهداف مقابل لاشيء. استطاع “عادل” أن يسجل هدفا ويتسبب في ركلة جزاء للآخر. بينما كان الهدف الثالث من نصيب أحد اللاعبين.

⁃ “يلا.. ادخل الصندوق.. وعدنا الأسبوع الجاي”

كانت تلك العبارة آخر شيء سمعه عادل وهو يستسلم لتلك اليد التي تدفعه داخل الصندوق وتغلقه عليه..

ظلام دامس وهدوء قاتل. كان “عادل” داخل الصندوق يتذكر أحداث المباراة..أصوات جماهير الفريق الآخر ولحظات الأهداف.

كان “عادل” بعد كل مباراة وفي كل مرة يسجل هدفا أو يتسبب في ضربة جزاء أو ينقذ الفريق من هدف، يتذكر فقط أصوات مشجعي الفريق الآخر. يتذكرها جيدا وهي ترتفع بالسباب والشتم وأقذع الألفاظ. كانت تلك الأصوات تؤلمه حد الموت وتحطم فيه تمثال الانتصار بكل قسوة. حاول أن يتذكر هتافات الفرح والتشجيع له بعد الأهداف ليعيد بناء تمثال الانتصار في داخله فلم يستطع.. لم يكن أبدا قادرا على تذكرها. كان يتساءل فيما إذا كان قد سمعها أصلا أو أحس بها.

كانت تلك الذكريات التي تعرضها له ذاكرته تجعله يبكي من أعماق قلبه كطفل.

⁃ “عادل..تتذكر الهدف اللي باليد؟”. قالها لـ”عادل” لاعب الوسط الذي صنع الهدف.

⁃ “ايه اتذكره..”

⁃ “اشوى انها عدت عالحكم”

⁃ “هو هذا بس الهدف اللي عدا على الحكم؟!”

⁃ “طيب.. تتذكر ضربة الجزاء ذيك؟”

⁃ “أكيد أتذكرها”

⁃ “صارت عليها ضجة كبيرة.. ههههههه”

الفصل الثالث:

مباريات كثيرة مرت، وكان “عادل” دائما هو العلامة الفارقة وسبب الانتصار. بسبب “عادل” استطاع الفريق أن يحصد الكثير من النقاط في بطولة الدوري، ويصل للمباراة النهائية في كأس خادم الحرمين الشريفين. كانت جماهير “عادل” سعيدة أشد ماتكون السعادة بانتصارات فريقها. كانوا دائما مايمجدون فريقهم وينشؤون له الهاشتاقات على تويتر ويساهمون في جعلها ترند بتغريداتهم التي لا تتوقف عن قوة فريقهم وعن الدفاع عن “عادل” ومهاجمة كل من يتعرض له. كانت جماهير فريق “عادل” تشاهد أهداف فريقها على مدار الساعة من خلال اليوتيوب والبرامج التلفزيونية، بينما كان “عادل” قابعا داخل الصندوق لوحده.. في ظلام دامس مستغرقا في التفكير بألم وحزن وصراع نفسي رهيب ينتظر صوت وقع تلك الأقدام التي تنذر بخروجه من الصندوق للواقع المؤلم كل أسبوع.

⁃ “اطلع من الصندوق يا “عادل”.. اليوم مباراتنا النهائية على الكاس”

⁃ “الملك بيحضر المباراة؟”

⁃ “أكيد ياعدول”

أثناء المباراة لم يكن “عادل” يبدو على مايرام فلقد خذل الجماهير أكثر من مرة على مدار المباراة. للمرة الأولى شعر “عادل” بأنه قادر على سماع أصوات مشجعي الفريق ولكنها لم تكن أصوات تشجيع وهتاف بل كانت أصوات سباب وشتائم له ولوالدته. في أكثر من لقطة، بدا “عادل” محتارا ومرتبكا.

الفصل الرابع والأخير:

كانت الغرفة التي يقبع فيها “عادل” باهتة كالموت إلا من صندوق فارغ كتبت عليه أحرف إنجليزية و “كأس ذهبية” لم تعد لامعة كما كانت من قبل. كانت شوارع المدينة خالية من البشر كمدينة مهجورة. وفي نفس الوقت، كان الكل رجالا ونساء وأطفالا إما في مدرجات الملعب أو متسمرين أمام شاشات التلفاز والأجهزة الإلكترونية يراقبون بكل حماس وصمت ثوان المباراة الأخيرة..

⁃ “الكورة.. لمست يده.. بلنتي.. شكله بلنتي”

⁃ “كذااااابة”

دار هذا الحوار بين زوج وزوجته من خلف شاشات التلفاز في الدقيقة الأخيرة من الوقت بدل الضائع.

اللاعبون يتجمعون حول الحكم. الكل كان يتساءل هل لمست الكرة في يده أم لا. ثوان من الانتظار مرت كأنها سنوات على جماهير الفريقين. فجأة طلب الحكم من اللاعبين الابتعاد واتجه نحو “عادل” وسأله:

⁃ “هل كانت فيه لمسة يد؟”

تردد عادل لوهلة ثم بدأ يصرخ:

⁃ “ايه لمست يده.. لمست يده.. بلنتي لهم.. بلنتي لهم”

وانتهت المباراة بخسارة الفريق ليس للمباراة فقط وإنما للكأس والبطولة أيضا.

وفي صباح اليوم التالي، كانت تلك الغرفة مضاءة بأنوار كالطيف، تملؤها رائحة عطر “نقية”. لم يكن ذلك “الكأس الذهبي” موجودا.. وكان “عادل” جالسا بكل سعادة ورضى وطمأنية نفس داخل الصندوق.. ذلك الصندوق الذي كتب عليه بالخط العريض “VAR”.

باسم الفصام

١ أبريل ٢٠١٩

تويتر: balfassam

مدونة: www.ethicsbassem